مدرسة المهاجر :
ادب المهاجر : هو الأدب الذي أنتجه الأدباء العرب الذين هاجروا إلى الأمريكتين وأنتجوا أدبا يجمع بين ملامح الشرق و مظاهر الغرب .
أسباب الهجرة :
- الاضطهاد السياسي و القهر الاجتماعي .
- الفقر و الصراع الطبقي .
- التماس الرزق و البحث عن حياة حرة كريمة .
- طبيعة أهل الشام و حبهم للمخاطرة و الرحلات
نشاط المهاجرين : لقد شغل المهاجرون في أول الأمر بلقمة العيش و أنتجوا أدبا تقليديا ثم اتجهوا و كونوا جماعتين أدبيتين هما :
الرابطة القلمية : تكونت بأمريكا الشمالية سنة 1920 م و قد دعا شعراؤها إلى تجديد الشعر شكلا و روحا , وهم الذين قادوا حركة التجديد في شعر المهاجر ..
و من شعرائها : (جبران خليل جبران ) و ( مخائيل نعيمة ) و إيليا أبو ماضي ) .
العصبة الأندلسية : تكونت بأمريكا الجنوبية سنة 1933 م و قد كان شعراؤها آملين إلى دعم الصلة
بين الشعر القديم و الجديد , لأنهم كانوا يعيشون مع مهاجرين من إسبانيا يذكرونهم بمجد العرب السابق في الأندلس , وللمرأة نشاط أدبي ظاهر بين أعضاء هذه الجماعة .
و من روادها : ( إلياس فرحات ) و (فوزي المعلوف ) و (سلمي ضائع) .
العوامل التي أثرت في أدب المهاجرين هي :
-تأثرهم بجو الحرية التي وجدوها في الغرب ولم يجدوها في الشرق .
-امتزاج ثقافتهم العربية بالثقافات الأجنبية مما أدى إلى ظهور أدب جديد فيه ملامح الشرق و الغرب .
-تطلعهم إلى المثل العليا و القيم الروحية التي عاشوها في الشرق و لم يجدوها في الغرب .
-حنينهم إلى وطنهم الأول مع ما وجدوا الغرب من حرية و سعة ورزق .
خصائص أدب المهاجر :
يمكن إجمال خصائص أدب المهاجر , و مظاهر التجديد عند شعراء هذه المدرسة فيما يلي :
أولا – من حيث المضمون و الأهداف :
-النـزعة الإنسانية :
المفهوم : وهي النظرة الإنسانية إلى المجتمع الذي تنتشر فيه مظاهر الحق و الخير و الجمال , ويبتعد عن
التبذل و الأحاسيس الرخيصة و الاتجاه إلى القيم و المثل العليا و لذلك اتسعت نظرتهم إلى الحب حتى شملت
الإنسان و الطبيعة و كل الكائنات وحتى أصبح الحب وسيلة أي سلام مع النفس و مع الوجود و مع الله .
الأسباب :
(ا)-الواقع عليهم في بلادهم التي هاجروا منها .
(ب)-الغربة التي شعروا بها في البلاد التي هاجروا إليها .
(ج)-تأثرهم بميراثهم الروحي في الشرق .
(د)-التأثر بالنزعات الإنسانية التي ظهرت في الفكر الغربي .
المثال يقول إيليا أبو ماضي :
إن نفسا لم يشرق الـحب فيها هـي نفس لم تدر ما معناها
أنا بالحب قد وصلت إلى نفسي و بالـحب قد عرفـت الله
- المشاركة الوجدانية :
المفهوم :تقوم على استبطان الشاعر لنفسه و تعمقه في فهم أسرارها و مشاركة الناس في انفعالاتهم و نوازعهم
و بخاصة أنهم وجدوا في شعره صدى لعواطفهم و متنفسا كما لم يستطيع التغبير عنه من خواطر .
الأسباب :
الظلم ..الغربة ..التأثير بالميراث الروحي في الشرق .
الرغبة في مشاركة الناس في آلامهم و عواطفهم و مشاعرهم :
المثال : يقول نسيب عريضة :
يا نفس مالك و الأنــين تتـــأملين و تؤلمين ؟
يا نفس مالك في اضطراب كفـريسة بين الذئـاب
هلا رجعت إلى الصـواب و بدلت ريبك باليقين ؟
-النزعة الروحية :
المفهوم : هي التأمل في الكون لمعرفة أسراره , و التطلع إلى الآفاق الروحية و التضرع إلى الله بالشكوى ليخلصهم من الحياة المادية و شرورها.
الأسباب :
(ا)-الظلم..(ب) الغربة (ج) التاثر بالميراث الرحي في الشرق .
المثال : يقول نسيب عريضة :
أيـــا من سناه اختفي وراء حـــدود البشر
نسيتك يـــوم الصفا فــلا تنسني في الكدر
- الحيرة و القلق والتطلع إلى عالم أفضل :
المفهوم : لم يسع أدباء المهجر وطنهم فرحلوا إلى مجتمع جديد إلا أنهم لم لن يجدوا فيه كل ما يأملون , فتضايقوا من هذا العالم المادي الشرير و لما يئسوا من إصلاحه سيطر عليهم إحساس يجمع بين الحيرة و القلق و الانطواء على النفس و التطلع إلى عالم فاضل بعيد عن شرور الحياة .
الأسباب :
الظلم ..الغربة ..
عدم تحقيق مطالبهم في المجتمع الجديد الذي هاجروا إليه.
المثال : يقول (جبران ) في قصيدة (البلاد المحجوبة) :
يا بـــلادا حجبت منذ الأزل كيف نرجوك ؟ ومن أين السبيـل ؟
أي فقــــر دونها ؟ أي جبل سورها العالي ؟ ومن هنا الدليـل ؟
أســراب أنت ؟ أم أنت الأمل في نـــفوس تتمنى المستحـيل ؟
- الاتجاه إلى الطبيعة :
المفهوم : هي الاتجاه إلى الطبيعة , والاندماج فيها , وتشخيصها و إجراء الحوار معها و اعتبارها كائنات حية تتألم و تشكوا , وتفرح و تعجب ..مثل الإنسان .
الأسباب :
(ا)-الظلم.
(ب)-الفرار من صخب الحياة و التعبير عما في نفوسهم من مشاعر و أحاسيس .
(ج)-التأثير بالميراث الروحي في الشرق و النزعات الفكرية في أدب الغــرب .
المثال : يقول إيليا أبو ماضي :
و كتـــابي الفضاء أقرأ فيه صــورا ما قرأتها في كتاب
- الحنين إلى الوطــــــن :
المفهوم : حب الوطن و التعلق به , والتألم لما يصيبه , والرغبة في نهضته و مسايرته لركب التقدم .
الأسباب : (ا) الظلم و الغربة (ج) التألم لما يعني الوطن من آلام ...و الرغبة في نهضة و مسايرته لركب الحضارة .(د) الزيارات التي كانوا يتبادلونها مع الأهل و الأصدقاء .
المثال : قول ندرة حداد :
أيها الآتي من الأوطـان و الأوطان حلوة
لم أجـد عنها و إن طال زمان البعد سلوة
وطن أصبح –منذ فارقته - في القلب جذوة
- الــــرمـــــز :
المفهوم : التعبير عن الأشياء المعنوية الكبيرة بالأمور المعنوية الكبيرة بأمور حسية صغيرة من غير تصريح بها .
(أ)الظلم ..(ب) الغربة (ج) عدم تمتعهم بالحرية الكاملة في المجتمع الجديد (د) التأثر بالأدب الرمزي الذي وجد في الأدب العربي القديم مثل (كليلة ودمنة ) و بما وجد في الأدب العربي .
المثال : قصيدة( البلاد المحجوبة ) التي يرمز بها جبران للمجتمع الأوربي المثالي الفاضل و قصيدته (التينة الحمقاء)
لإيليا أبي ماضي التي يرمز بها لمن يبخل بخيره على الناس فينكرونه , ولا يكون له وجود بينهم و فيها يقول :
و ظـلت التينة الحمقاء عـــارية كأنـها وتد في الأرض أو حجـر
و لم يطق صاحب البستان رؤيـتها فاجتثها فهـوت في النـار تستعر من ليس يسخوا بها تسخوا الحياة به فإنــــه أحمق بالحرص ينتحر
-من حيث الشكل و الأداء :
1- التـأكيد على الوحدة العضوية التي تجعل القصيدة وحدة بنائية .
2- الـتعبير عن تجربة شعورية ذاتية لا عن موضوع خـــارجي .
3- الوقـــوع في أخطاء لغوية بسبب التساهل في استخدام اللغة .
4- التصرف في استخدام الوزن و القافيـــة
5- الإكثار من الشكل القصصي الذي يقدر على تحليل العواطف الإنسانية , وتجسيد المعاني , و بذلك أصبحت القصة الشعرية لونا من ألوان الأداء الشعري عند شعراء هذه المدرسة .
أبرز أدباء المهجــــــر :
جبران خليل جبران
من (بشرِّي) لبنان (1883 - 1895), حيث ولد وحيث تفتح وجدانه وخياله, انتقل إلى (بوسطن) (1895-1898) التي كانت تشهد -آنذاك- نهضة فكرية, وعاد إلى (بيروت) (1898-1902) ليعيش نكبات شرقه وتخلّفه, بينما كان يستزيد من تعلم العربية في بلاده. ثم إلى (بوسطن) ثانية (1902- 190), ليعيش تجربة الموت الذي حصد أسرته (1902-1904), ثم إلى (باريس) (1908-1910) ليسبر عمق التحول الثقافي والفني الذي كانت تشهده, وبعدها (نيويورك) (1911-191), حيث يدرك معنى المدينة الحديثة في أوسع مفاهيمها
ميخائيل نعيمة
ميخائيل نعيمة ولد في جبل صنين في لبنان عام 1889 وانهى دراسته المدرسية في مدرسة الجمعية الفلسطينية في بسكنتا وتبعها بخمس سنوات جامعية في بولتافيا الأوكرانية بين عامي 1905 و 1911 ، ثم أكمل دراسته في الولايات الأمريكية المتحدة(منذ ديسمبر 1911) وحصل على الجنسية الأمريكية. انضم الى الرابطة القلمية وكان نائبا لجبران خليل جبران في الرابطة القلمية ،التي أسسها أدباء عرب في المهجر، عاد إلى بسكنتا عام 1932 واتسع نشاطه الأدبي. لقّب ب"ناسك الشخروب"، توفي عام 1988.
إليا أبو ماضي
إيليا ضاهر أبو ماضي 1889-1957 محل الميلاد المحيدثة ـ المتن الشمالي – لبنان. سبب الشهرة يأتي ثالثا في شهرته بين شعراء المهجر، بعد جبران ونعيمة.. يزخر شعر أبي ماضي بالتفاؤل والإقبال على الحياة بإسباغ الجمال على البشر والطبيعة، ويستثنى من ذلك درته الشهيرة "الطلاسم" .. وكمعظم المهجريين يتصف بالجرأة في التعامل مع اللغة ومع القالب العمودي الموروث . نشأ أبو ماضي في عائلة بسيطة الحال لذلك لم يستطع أن يدرس في قريته سوى الدروس الابتدائية البسيطة؛ فدخل مدرسة المحيدثة القائمة في جوار الكنيسة. عندما اشتد به الفقر في لبنان، رحل إيليا إلى مصر عام 1902 بهدف التجارة مع عمه الذي كان يمتهن تجارة التبغ.
نسيب عريضة
ولد نسيب عريضة في شهر آب سنة 1887م في مدينة " حِمْص " بشمال سوريا، لوالدين أرثوذكسيين هما أسعد عريضة وسليمة حداد. تلقى تعليمه الابتدائي بمدرسة حِمْص الروسية المجانية، وعندما ظهر تفوقه في الدراسة اختارته الجمعية الروسية الإمبراطورية ليكمل تعليمه الثانوي في مدرسة المعلمين الروسية بمدينة الناصرة في فلسطين . وقد عاش نسيب عريضة منذ سنة 1900 في القسم الداخلي لمدرسة " الناصرة" حيث التقى بعد سنتين قضاهما في مدرسة المعلمين الروسية بتلميذ جديد ، أصبح فيما بعد صديقاً وزميلاً له مدى حياته هو ميخائيل نعيمة، كما التقى بزميل آخر هو الشاعر عبد المسيح حداد. وأمضى في مدرسة الناصرة مدة خمس سنوات أنهى خلالها تعليمه. أغرم بالقراءة والتأمل منذ صغره في الطبيعة والحياة ، فقرأ أمهات الكتب في الأدب العربي خاصة دواوين الشعراء ، ثم بدأ يقرض الشعر في مختلف موضوعات الحياة وغلب على شعره التأمل .
________________________________________
الأدب المهجري:
تأّثره بالغرب وتأثيره فيه
شرط الكلام على تأّثر وتأثير بين فرد وفرد أو جماعة وجماعة أو بين حضارة وحضارة، أن يكون لكل من الاثنين المتفاعلين شخصية واضحة وكيان معروف وهوية محددة، ألا يتوّفر ذلك في أي من الاثنين المتفاعلين، انقلب الكلام من تأثير وتأّثر بينهما إلى متبوع وتابع وصانع ومصنوع، بل إلى مولى مقطوع النسب وسيد به وإليه يتم الانتساب. لقد كان من الغرب الحديث في أخريات القرن الثامن عشر أن فاجأ العربية وأهلها في عقر ديارهم وهم في غفلة شبه تامة، لا عنه وعن حقيقة آدابه وتراثه وحضارته فقط، بل عن واقع حالهم هم وحقيقة لغتهم وآدابهم وتراثهم، بل عن هويتهم ومكانهم في التاريخ. جلّ ما كانوا يعونه من أمرهم، شعور غائم أّنهم عثمانيون، وأن غربا يقتحم أبوابهم كما فعل نابوليون في مصر 1798 لا يعدو كونه غراما متطفلا عن أرض هي أرض السلطان، على حد ما قاله أهل الإسكندرية ومماليك القاهرة لمحّذريهم الانكليز من خطر الفرنسيين: "هذه بلاد السلطان، وليس للفرنسيين ولا لغيرهم عليها سبب فاذهبوا عّنا... إذا جاء جميع الإفرنج فلا يقفون في مقابلتنا وإّننا سندوسهم بخيولنا". فلا عرب بلاد السلطان يومها، والتركية لغة أمتهم الرسمية، كانوا بالنسبة إلى أنفسهم عربا وأهل عربية حية فاعلة، ليؤّثر الغرب الطارئ بلغتهم وآدابهم، ولا الغرب هذا كان بالنسبة إليهم، والإسلام مرتكز دولتهم، أكثر من إفرنجي غامض مضلل متطفل مصيره حوافر خيولهم، كي يكون له تأثير في إسلامهم أو كي يتأّثروا بشيء من تراثه وحضارته. قصة التأثير والتأّثر في الآداب العربية منذ الجبرتي إذن، بل ربما قصة التراث العربي الحديث جميعا، هي في مدى استفاقة العربية وأهلها على ذاتهم كشعب وكتارث من جهة، وفي درجة يقظتهم من جهة أخرى بفعل تلك الاستفاقة ونتيجة لها، على هوية الغرب وحقيقة تراثه وحضارته. إذ ليس لنقيض أن يفعل أو ينفعل بنقيضه إلا في مدى وعيه حّقا كم هو مختلف ونقيض. لذلك يقتضي كل بحث في موضوع الأدب العربي وتأّثره بالغرب أو تأثيره فيه أن يتمحور حول مسألة الهوية. بين عرب بلاد السلطان المتحفزين لإبادة الغرب الطارئ ودوسه بحوافر خيولهم وبين المهجريين النازحين عن تلك البلاد في نيويورك، "دردور" الحياة الغربية، كما وصفها ميخائيل نعيمه، وأحد أهم مجسات نبضها، قرن كامل. إّنه قرن تململ أهل العربية واستفاقتهم المتنامية على ذاتهم كشعب وتراث تحت ضغط المد الغربي المتفاقم وبسبب منه. وإّنه ليصعب الإلمام بطبيعة الأثر الذي كان للغرب على الأدب العربي خلال تلك الفترة، وما بعدها، بما فيه المهجريون ومدرستهم التي نعتبر مقال أمين الريحاني "خطبة في التساهل الديني" سنة 1900 فاتحة لها، من غير أن نرافق عند أبناء العربية مسارهم الجدلي مع الغرب وتنامي وعيهم له ولأنفسهم كما انعكس في تراثهم حّتى في ذلك التاريخ. لعلّ أبرز ما يستوقف الباحث عند الجيل الأول من أجيال ما يمكن أن نسميه "الجدلية العربية الغربية في أرض السلطان" أثران اثنان استثارت كلا منهما ظاهرة واحدة هي نابوليون والوجود الفرنسي في المشرق العثماني، واحد للجبرتي في مصر وآخر لنقولا الترك، أحد شعراء بلاط الأمير بشير في لبنان. ففي الأول استفاضة في الكلام على ما كان للحملة النابوليونية من مساوئ وقباحات خاصة في ما يتعّلق بالقيم الأخلاقية والاجتماعية والروحية بحيث أن زوال تلك الحملة الملحدة يقرب من أن يكون قدرا إلهيا لصون نقاء حياة المصريين وشرف دينهم وتراثهم. لذلك لم يجد الجبرتي لتسمية كتابه خيرا من مظاهر التقديس في زوال دولة الفرنسيس. أما كتاب الترك تملك جمهور الفرنساوية الأقطار المصرية والبلاد الشامية الذي يرجح أن يكون بتكليف من أميره الحريص، نظرا إلى موقعه الحساس، على معرفة طبيعة المستجدات حوله في المنطقة، فيتناول الحملة بروح أقل عداء وإن لم يكن أكثر قبولا. وإذا لم يغب عن باله أن نابوليون هو في الحقيقة ابن الثورة الفرنسية، يقبل على هذه الثورة، وبأسلوب لا يعوزه الذكاء، فيتحدث عن بعض مسبباتها ومرتكزاتها دون أن يذهل كما لم يذهل الجبرتي، عن أن جماعتها دهريون وأن خطرهم على الدين والأخلاق والمجتمع عميهم. ليس المقصود من الأثرين هنا التوقف عند المضامين، ذلك أن حقيقة الحملة وبطلها ومن ورائها الثورة الفرنسية بما أحدثته أو رمزت إليه من انقلاب هائل في مجرى الحياة الغربية برمتها، ظلت أبعد من أن يلم بها قلما الكاتبين. المهم في الأمر ما تجّلى واضحا عند الرجلين وعند أبناء جيل من متفقهي العصر حولهما، من تبديات شعور ال "نحن" وال "هم" فكانت تعني "الفرنجة" أو الغرب على وجه العموم، على تنسم، وإن بعد غامضا، لما يعنيه ذلك الغرب، خاصة غرب الحداثة بالمعنى العلمي والفكري والحضاري، وأما ال "نحن" وقد أصابتها الهزة وعصفت بسقفها ريح الحداثة فلم يعد بوسعها أن تبقى مستكينة تحت ذلك السقف مطمئنة إلى ثوابت وجودها ومطلقات قناعاتها ولا نهائية نظرتها إلى الكون والحياة. لقد تسبب الغرب في المنطقة، إضافة إلى الهزة العسكرية التي أحدثها مجيئه، بعدد من الأفكار والممارسات وطرائق الحياة التي كانت مغايرة، بل نقيضة للمعهود والمسّلم به والمتعارف عليه. وهكذا لم يعد ممكنا لهذه ال"نحن" باسم هويتها الضبابية القائمة أن تتعامل مع هذه المستجدات بمجرد التجاهر والرفض. فحّتى الرفض ذاته أصبح يقتضي العودة إلى الذات لتبرير ما هو مقبول. وهكذا دخلت الذات العربية ما بعد جيل الجبرتي والترك، وقد هزها الغرب وربما لأول مرة في تاريخها الحديث، جدلية الرفض والقبول. فالجبرتي مثلا، الذي كان في رأس ما أزعجه عند الفرنسيين فساد المرأة وتفّلتها في مقابل المرأة المسلمة المتميزة، يسترسل في الكلام على فظاعة هذا المسلك، وخطره على دين أهل الإسلام وأخلاقهم وقيمهم. ولا يخفى تشّفيه المثلج بابنة البكري التي خالطت، وعددا من مثيلاتها، الفرنسيين وتشبهت بهم، عندما دّقوا عنقها بعد رحيل الحملة وعودة مصر ثانية إلى سلامة ما كانت سابقا عليه. أما المفارقة ففي أن ما ارتاح له الجبرتي بعد جلاء الفرنجة من إغلاق لباب المرأة، ومن اطمئنان إلى سلامة هويتها من المؤّثرات الغربية، لم يكن إغلاقا على الإطلاق، بل كان فتحا لذلك الباب من حيث لم يدر الجبرتي يومها، على قضية مستحدثة لا عهد للتراث بها من قبل: إّنها المسألة النسانية التي ما لبثت أن شغلت فكر ما بعد الجبرتي من الطهطاوي مرورا بقاسم أمين واستطرادا حّتى العصر الحاضر. إلا أن مشكلة هذا الفكر جميعا ففي أّنه من منطلق الإيمان بوجود هوية ثابتة ومميزة للمرأة المسلمة وبوجوب بلورتها والحفاظ عليها في مقابل المرأة الغربية المباينة، عمد إلى تحريك تلك الهوية وإعادة رسمها باستمرار، بحيث غدت عند واحدة كنوال السعداوي في أخريات هذا القرن، غربية خالصة، زواجا وطلاقا وعملا وحرية واستقلالا وقيما وغيرها، تكاد لا تحمل من سماتها الأولى غير الاسم. فالمفارقة هي في أن المرأة الشرقية من حيث المبدأ لم تصبح غربية لأّنها تنكرت لذاتها وتغربت، بل أن الحرص على التباين من باب إعادة رسم الهوية وترسيخها هو الذي أفضى في نهاية الأمر إلى التماثل. والذي يقال في المرأة وقضيتها في ضوء جدلية الرفض والقبول، وال"نحن" وال"هم" التي دخلها أهل العربية منذ مطلع القرن الماضي، يصح أيضا وبالتمام في مجمل ما أتى به الغرب إلى الشرق من مقومات ترتكز إليها هويته الحضارية الحديثة: من شريعة وسلطة مصدرهما الشعب وليس الله، إلى علمانية تفصل في المجتمع بين الحياة الدينية والحياة المدنية، وفي المعرفة بين ما يتعّلق منها بالطبيعة وما يّتصل منها بعالم الماوراء، إلى تركيز على الفرد كقيمة نهائية، إرادة وحرية فعل وفكر واعتقاد، إلى الديموقراطية كسبيل أمثل للحكم، إلى الأمة المّتخذة من الأرض والتاريخ والنفع القومي مبدأ انتماء، إلى غير ذلك مما يتصل بهذه جميعا ويتفرع عنها ويكون ما اصطلح على تسميته الغرب الحديث. وأّنه من باب الحرص نفسه كما في المسألة النسائية على التباين بين ال"نحن" وال"هم" في كل هذه القضايا، أن أفضى الأمر بالنسبة إليها جميعا إلى تماثل يكاد يكون خالصا. فالطهطاوي مثلا الذي عايش في باريس أواخر العشرينات من القرن الماضي نظرة أوروبا الوضعية العلمانية إلى المجتمع والشريعة والسلطة والفضائل والمعارف والعلوم، لم يستطع، على إعجابه بمنجزات الغرب، أن يتقبل النظرة الكامنة وراءها. وهكذا وجد نفسه مسوقا، مراعاة لهذا الإعجاب من جهة وحرصا على التميز هوية من جهة أخرى، إلى تحريك تلك الهوية معتبرا، وفي ذهنه كمسلم أن الله خالق كل شيء بما في ذلك الطبيعة، أن لا كبير فرق بين مبادئ القانون الطبيعي الوضعي ومبادئ القانون الإلهي المتمّثل في الشريعة الإسلامية، فاتحا هكذا الباب أمام الجيل اللاحق للتأكيد بلسان إمام ذلك الجيل الشيخ محمد عبده في مقولته فقد كان من شأن هذه المقولة عند الأجيال التالية من مريدي .« الإسلام دين العلم والعقل والمدنية » : الشهيرة الإمام، لا أن تعطي العقل والعلم والمدنية هوية إسلامية كما هو مقتضى التميز المطلوب، بل أن تضفي على الإسلام هوية علمية بالمعنى الغربي للعمل، فينتهي بذلك إلى التماثل الذي سبق رفضه. ذلك بين لا في تفسير الإمام عبده للقرآن الكريم فقط حيث يحاول فهم الكثير من آيات الكتاب في ضوء معطيات العلوم الحديثة، بل في أعمال تلامذته ومتأّثري مدرسته من قاسم أمين إلى علي عبد الرازق وحسين هيكل ولطفي السيد وطه حسين في القرن العشرين. إذا كان الإسلام هويتي التي بها أتميز، وكان في الوقت نفسه دين العلم والمدنية، مناص، إذا أدت العلوم الوضعية في الغرب إلى اعتماد العلمنة، من أن اعتبر الإسلام قائلا بها كذلك. وهكذا خرج كتاب عبد الرازق الإسلام وأصول الحكم بأن الإسلام لم يكن دولة في الأصل إذ لا نص على الخلافة في القرآن ولا هي في السّنة ولا حصل بشأنها إجماع. بل "الحق أن الإسلام بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون"، التي كانت "نكبة على الإسلام والمسلمين وينبوع شر وفساد" وإذ زال هكذا كون الإسلام دينا ودولة انفتح الباب أمام المشرقي على مصراعيه كي يكون مسلما إيمانا وهوية، وعلمانيا في الوقت ذاته، ذا نظرة وضعية غربية خالصة إلى سائر شؤون الكون والحياة. أما وقد بلغ التمايز عند جيل عبد الرازق بمن فيهم لطفي السيد وحسين هيكل في الباكر من إنتاجه حد التماثل، خاصة في مجال الفكر القومي والقومية المصرية، فأي جدوى يمكن بعد أن تجنى من بقاء ال"هم" وال"نحن". وهكذا يأتي طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر تتويجا لهذا المسار، فيلغي الجدلية من جذورها ويدمج ال"نحن" بال"هم" على أساس أّننا والغرب أبناء حضارة واحدة والمقومات موحدة الجذور والمنطلقات والأهداف، فلا تمايز أو تماثل ولا رفض أو قبول، بل "سنسير سيرة الأوروبيين في الحكم والإدارة والتشريع" جاهدين في أن نمحو من قلوب المصريين، أفرادا وجماعات، هذا الوهم الآثم الشنيع الذي يصور لهم أّنهم خلقوا من طينة غير طينة الأوروبي وفطروا على أمزجة الأوروبية، ومنحوا عقولا غير العقول الأوروبية... علينا أن نصبح أوروبيين في كل شيء، قابلين ما في ذلك من حسنات وسيئات... علينا أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادا ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها حلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره وما يحمد فيها وما يعاب. إذا كانت جدلية الرفض والقبول قد أفضت بمسلمي العربية تحت شعار التمايز هوية وحضارة، إلى التماثل التام بل إلى الوحدة الخالصة فشرعنت دخول الغرب حضاريا إلى المنطقة من الباب الأوسع، فإّنها بالنسبة إلى مسيحي العربية منذ بدايات القرن وحّتى المهجرين قد سلكت، وإن على تواز، خطا آخر ترتبت عليه نتائج مختلفة. ذلك أن مبدأ ال"نحن" في المنطقة عند من استجار به من مسيحيي العربية في وجه ال"هم"، لم يكن الإسلام بل اللغة العربية. والأصعب أن يفسر تفسيرا كاملا هذا الإقبال الملفت عند مثقفي المسيحيين المحليين منذ أوائل القرن الثامن عشر، على العربية وسائر علومها امتدادا من حلب إلى لبنان ولبنانيي مصر على امتداد القرن التاسع عشر. إن محاولات هؤلاء التعبيرية حّتى بدايات القرن الماضي ظّلت على وجه العموم ركيكة ومخلخلة مما جعل شاعر أحد بلاطات بغداد في حينه يحجم مثلا عن أن يحتفل بقصيدة شائعة ألا فاعفنا من رد شعر » : لأحد شعراء الأمير الشهابي في لبنان طلب إليه سيده داود باشا أن يعارضها، قائلا تنصرا. ألا إّنها ركاكة كان يحتدم خلفها جهد حار لتجاوزها إلى عربية أولى أصيلة خالصة تطلب لذاتها لا كوسيلة تقتضيها حاجة إلى إبلاغ، في ضوء هذا تفهم تلك الغيرة الشديدة مثلا التي يبديها نقولا الترك في إحدى قصائده على الشعر، بسبب قصور مجايليه الفاضح عن الوفاء بمقتضياته البنائية وصون مقدساته اللغطية وحرماتها. كما يفهم حرصه على التزام الأسلوب المقامي في التوجه إلى مولاه الأمير بشير وفي محاولاته الترفيه عنه.
منقول للافادة